| |
وضع د. نبيل حداد بين يدي إصدارات حديثة له في نقد الرواية والقصة القصيرة ، لم أستطع تجاوزها من دون قول كلمة في هذا المنجز الذي جعله صاحبه في ثلاثة تصانيف: أفرد الأول "بهجة السرد" للرواية المصرية ، في حين خصص "كاميليا الرواية الأردنية" لقراءات في الرواية الأردنية ، فيما جمع شتاتاً من هنا وهناك ، في كتاب "هنا لحظة التنوير". وعلى الرغم من أنه جمع في تلك الكتب عدداً غير هين من الدراسات التي كان أنجزها في فترات زمنية سابقة ، فإن جمعها على هذا النحو يكشف عن رؤية لم تحكمها المصادفة ، بل نتاج تجربة نقدية أخذت وقتها واستنفذت نار نضجها ، عبر مراحل من الوعي المبكر على ما أسماه ببهجة السرد الأول ، متمثلاً بالرواية المصرية. انحياز للرواية المصرية بعيداً عن التنظير والمراوغة اللغوية ، لم يُخف د. نبيل انحيازه للرواية المصرية ، بوصفها الشرفة الأولى التي أطل منها على عوالم السرد الذي بعث في نفسه ، كما في نفوس أبناء جيله وتلامذته من بعد ، من دهشة ، أو ما عبّر عنه بالبهجة التي ظلت عالقة في نفوسنا ونحن نتجول مع "زينب" في حقول الريف المصري ومناظره الساحرة ، ونختلس معها لحظات العشق المحرم ، أو نكتشف مع جرجي زيدان جانباً آخر من أثر الحروب والصراعات السياسية ، ونحن نلهث خلف نهاية سعيدة لشتات العاشقين ، أو تتأجج خيالاتنا الصبيانية بعوالم يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس ، وحتى بدايات الوعي على أثر التحولات السياسية والاجتماعية على بنية المجتمع ، وبنية الأسرة المصرية العربية ، وبنية الشخصية العربية في أعمال نجيب محفوظ ، وصنع الله إبراهيم ، وبهاء طاهر وغيرهم ، وليس انتهاء بميرال الطحاوي ، ويوسف زيدان ، وعلاء الأسواني. لم يخفً حداد انحيازه الوجداني للرواية المصرية ، وهو اعتراف يحسب له لا عليه ، لما يترتب على ذلك من ضرورة إعادة النظر بمسألة ادعاء الحيادية والموضوعية في النقد ، فمجرد الاختيار يتضمن شكلاً من الانحياز بصورة أو بأخرى ، أليس "اختيار المرء قطعة من عقله"؟ ، كما أن هذا الانحياز- كما أرى - شرط الصبر على محاورة النص ، وسبر مجاهله ، وطرْق مغاليقه ، بما يبعث البهجة في النفس فتخرج راضية لا ينهكها طول الجهد والمعاندة التي هي من طبيعة النص الإبداعي عموماً. لفت د. حداد في مقدمة "بهجة السرد" إلى مسألة التنوع في الأعمال الروائية المصرية ، التي تشكل مصدراً للبهجة (بهجة التنزه في حديقة زهور) ، فثمة تنوع في المضامين وفي الاتجاهات وفي الأساليب السردية ، كما لفت أيضاً إلى دور الوعي في النظر أو إعادة النظر في روايات سبق تناولها في مراحل مبكرة من دون التفات كافْ إليها ، ما قد يتم تحت ضغط مناسبة علمية أو غير ذلك من دواعي الكتابة. من منطلقه ذاك احتفى د. حداد بالرواية العربية في صياغاتها الجديدة التي نأت بنفسها عن ثقل السرد البلاغي الذي شهدته الرواية العربية في مراحلها التأسيسية الأولى ، والتي ظلت الروح فيها مشدودة إلى التعبير لذاته ، في فترة من التماهي تزيد عن سبعة قرون انتهى فيها النثر العربي إلى قوالبه المتحجرة ، إلى أن هبت رياح التغيير التي استدعت البحث عن أطر فنية تستوعب مفردات الحياة لزمن النهضة الجديد ، والالتفات لأساليب جديدة تلبي احتياجات التجربة الحديثة ، في ضوء الاتصال بالغرب ، وفي ضوء الاستجابة لروح عصر يتسم بالتغير وبالثورة على الأنساق اللغوية ، وذلك ما حاول الرواد الأوائل تمثله في إنجازات محمد حسين هيكل ، ويحي حقي ، وتوفيق الحكيم ، ونجيب محفوظ الذي أنجز عبر منظومة الرواية بأكملها شكلاً جديداً من أشكال الوجود المتكامل ، حيث كل شيء يكتسب وجوده من وجود الشخصية نفسها ، لا من قوالب متوارثة ، فأصبحت اللغة والشخصية كائناً واحداً. تلك هي رؤية د. نبيل حداد لبلاغة السرد ، التي انطلق من منظورها ليعالج قضايا السرد وعلاقته بعدد من القضايا ذات الصلة بلغة الرواية ومضامينها ، كاستخدام العامية ، والتاريخ ، والاتكاء على الموروث ، والدرامية ، والبوليفونية ، والحوار ، والسينمائية ، من خلال تطبيقات من يوسف القعيد ، وسعد مكاوي ، ورضوى عاشور ، وبهاء طاهر ، وعلاء الأسواني ، وميرال الطحاوي ، ومي تلمساني ، وأبو السعود الأبياري ، ويختم بوقفة استذكارية أشبه بإطلالة على عالم نجيب محفوظ ومشروعه الكبير منذ "الثلاثية" وحتى "أحلام فترة النقاهة". لقد برع د. نبيل حداد في كتابه هذا في صياغة بهجته الخاصة بمدرسته الأدبية الأولى ، مصر: العالم الروائي الذي فتح آفاق السرد وحمل للعالم بهجة العرب ببزوغ نجم رواية عربية مختلفة ، تكسر سمت الحكايا والمقامات والرسائل ، وتحاكي انفتاح المجتمع وتحولاته واعتداده بروحه وبمنجزاته الخاصة ، وأهمها اللغة الخاصة التي تقيم أبنية فنية تمثل تلك الروح وتواكب طموحاته. وعلى الرغم من أن الدراسات التي تضمنها الكتاب كانت قد أنجزت في فترات زمنية سابقة ومختلفة ، فإن اللافت هنا أن رؤية واحدة تنتظمها جميعاً ، فيقف على حرص الناقد على إضفاء منظوره الخاص في النظر إلى كل عمل روائي يعالجه على أنه يحقق جانباً من تلك الرؤية العامة التي حددها في البدء ، وترى في كل عمل لحظة كشف من تطور السرد عبر اتجاهات وأشكال من المطاوعة السردية تشكل بمجموعها حالة إبداعية متكاملة ، جعلت للنقد عنده بهجة مستمدة من إحساسه ببهجة السرد الروائي الطامح إلى بناء عالمه الخاص المنتزع من عالم يمور بالأحداث والمتغيرات التي باتت تثقل الروح الإنسانية الباحثة عن السلام والهدوء من بين ضجيج الآلة وتسارع حركتها ليكون الفن هو آخر ما يبقى. الرواية الأردنية تجاوزت الحالة المحلية أما الإصدار الثاني للدكتور نبيل حداد فقد تخيّر له عنوان "كاميليا الرواية الأردنية وقراءات أخرى" ، وفيه جمع بين دفتين عدداً من الدراسات والقراءات في روايات أردنية متنوعة وممتدة عبر عقود تراوح بين منتصف ستينيات القرن الماضي ، وحتى العقد الأول من القرن الحالي. لقد بسط الكاتب منهجه في اختيار الروايات المدروسة ، فمقاربات هذا الكتاب تحاول أن تلتقط شيئاً من كل عقد من العقود الخمسة الأخيرة ، سعياً لتشخيص ملامح الحالة التي كان عليها وضع الرواية في الأردن أيام صدوره ، وهو بذلك يقدم "تطبيقياً" تاريخياً لمسيرة الرواية في الأردن من خلال نماذج ممثلة لكل مرحلة ، تعكس ما وصلت إليه الرواية من تطور فني وتنوع في الرؤى والأدوات والاتجاهات ، وفي ضوء ذلك فقد نظر في رواية "زائرة منتصف الليل" لعبدالكريم فرحان ، بوصفها تمثل علامة مهمة في مسيرة الرواية الأردنية ، أهملها الدارسون ، وتأخر الالتفات إليها ، وتوقف عند رواية "بدوي في أوروبا" لجمعة حماد ، بما تشكله من إضافة نوعية مهمة إلى رصيد الحركة الروائية في عقد السبعينيات. ووفق المنهج ذاته ، ومن زاوية الرؤية ذاتها يتوقف عند هاجس التشكيل المديني عند زياد قاسم في رواية "أبناء القلعة" ممثلة لمرحلة الثمانينيات ، ثم عند إشكالية الكتابة بالتجربة لا عنها ، في "الشظايا والفسيفساء" لمؤنس الرزاز ، من مرحلة التسعينيات ، وفي أواخر التسعينيات يتوقف عند رواية "القرمية" لسميحة خريس ، متلمساً جوانب الفن والتاريخ والأسطورة فيها ، قبل أن يدخل العقد الأول من القرن الحالي ، برواية "أعراس آمنة" لإبراهيم نصر الله ، ثم رواية عصام موسى ، بوصفها العمل الذي يمثل قسوة الرؤية وفساد الواقع ، منوهاً بالبناء التقليدي للرواية ، ثم يختم بقراءة في تجربة ليلى الأطرش ، مركزاً على مسألة مجاوزة التابوهات ، والإنجاز المشهدي ، والانفتاح على تقنيات الفنون الأخرى. وتجدر الإشارة هنا إلى مسألتين مهمتين طرحهما د.نبيل حداد في مفتتح كتابه ، يطرح في الأولى إشكالية تعبير (الرواية الأردنية) ، ليقر باطمئنان أن "هنالك رواية أردنية ، بالقدر الذي فيه رواية مصرية أو فلسطينية أو تونسية.. إلخ" بعيداً عن أية اعتبارات أخرى ، وهو الأمر الذي يفضي به إلى طرح المسألة الأخرى وتتعلق بما أسماه (مأسسة) الرواية الأردنية ، فللرواية في الأردن - كما يقول - "مؤسساتها الراسخة ، من (مبدعين) جاوزوا الحالة المحلية ، وربما الحالة العربية. وعلى الرغم من تحفظي على مصطلح (المأسسة) هذا ، وهو تحفظ التلميذ المشاكس لأستاذه ، فإن الوقت في ظني ما زال مبكراً لاعتبار المبدع الأردني (مؤسسة) ، بما يحمله هذا المفهوم من رسوخ واتساع وعمق تجربة ، كتلك التي شهدناها في تجربة نجيب محفوظ ، ويحي حقي ، وصنع الله إبراهيم ، وغيرهم من رواد الرواية العربية ، اللهم إلا إذا حمل المصطلح مفهوم التأسيس لفن روائي أردني ، له أعلامه وتجاربه المميزة والمتنوعة في اتجاهاتها الفنية والفكرية ، من مثل ما تحمله الإشارة إلى التأسيس للرواية الرقمية التي لم تجاوز حتى الآن الجهد المميز لمحمد سناجلة ، على الرغم من مرور قرابة العقد من السنوات على إطلاق تجربته وترويجها عربياً. غير أنه ، ومن جانب آخر ، وسواء كان الأمر من علامات المأسسة ، أو من علامات الرسوخ والانتشار ، فلا مناص من الإقرار بأن الرواية الأردنية أضحت الآن مادة خصبة للدراسات ولحركة نقدية نشطة قامت عليها ، ولا بد هنا من الإشارة إلى دور الدكتور نبيل حداد بشكل خاص في هذه الحركة ، ليس من خلال ما أصدر من دراسات وجهود نقدية في هذا المجال حسب ، وإنما في توجيه طلبته لإنجاز مشاريعهم البحثية في تحليل ونقد القصة والرواية الأردنية ، وهو محق ، في جانب آخر ، مما يحمله هذا المصطلح ، من أن تعبير الرواية الأردنية لم يكن بالصلابة نفسها التي عليها اليوم ، وقبل الثمانينيات مثلاً ، ما يدعو للاطمئنان لتعبير (الرواية الأردنية) ، لكن ذلك لا ينبغي أن يجعلنا منحازين ومتسامحين في حمل هذه الرواية إلى مواقع ارتقاء نطمح حقاً للوصول إليها من دون أن نضطر إلى مقاربتها بنماذج تصعب عندها المقاربة ، كالمقاربة بين بدوي في أوروبا وموسم الهجرة إلى الشمال مثلاً. ضرورة الاهتمام نقدياً بالقصة القصيرة في صياغته لعنوان الكتاب (هنا لحظة التنوير) ينبه د. حداد إلى جانب مهم من تشكيل القصة القصيرة ، قلما يلتفت إليه الدارسون ، على الرغم من أنه يشكل أسّاً تنهض عليه بنية القصة القصيرة ، وهو (لحظة التنوير) التي تمنح القصة القصيرة مبررات وقفها أو قطعها واكتفائها بما تكشفه للقارئ من خفاء اللحظات الأخرى وعاديّتها ، ولذلك تُسمى في بعض الأحيان (لحظة الكشف) التي تقدم غالباً تلميحاً لرؤية الكاتب تجاه الموضوع أو الحدث أو المغزى الذي يرمي إلى توصيله آخر الأمر. في كتابه (هنا لحظة التنوير) أضاف د.نبيل إلى عنايته بالقصة الأردنية دراسات أو قراءات - كما شاء أن يسميها - نماذج من القصة العربية ، لحنا مينة ، وشوقي بغدادي ، وجورج سالم ، إلى جانب قراءات في قصص لفخري قعوار ، وجمال ناجي ، وسحر ملص ، ملتفتاً إلى انفتاح الشعر على السرد عند خالد محادين. وقد حرص في تناوله مجموعة من واحدة لكل من أولئك الكتّاب ، على أن يقف على اللحظة الكاشفة التي تنتظم شبكة العلاقات المختلفة في القصص ، في وقفاته المتنوعة مع المجموعات القصصية أو الشعرية السردية - إن صح التعبير- ممتثلاً لما كان قد حدده منذ البدء في المفتتح ، من تحديد الوشائج التي دفعته لجمع هذه المواد المتفرقة في كتاب واحد ، كالنفس الدرامي الذي تلمسه في بعض المجموعات الشعرية أصلاً ، كما أن هذه المجموعات جاءت في أغلبها من لدن أدباء تنازع نتاجهم نوع أدبي آخر غير القصة القصيرة. بإيجاز شديد يشبه التلميح ، عمد د. نبيل حداد إلى تمرير رأيه في ما أثير من زوبعة حول القصة القصيرة وحضورها في الوقت الراهن ، أو ما ذهب إليه بعضهم من نعي لهذا الفن الأصيل ، فقد أنتهى في تقديمه لكتاب (هنا لحظة التنوير) إلى الإقرار بأنه "من المبكر ، بل من قبيل التسرع بالتبشير بنعي فن القصة القصيرة في أدبنا العربي - وأحياناً في الأدب العالمي كما يذهب إلى هذا أصحاب (البشرى) - فالنعي العلمي obituary يتطلب الإحاطة بمناقب الفقيد ، وبعثراته ، وبعطائه وامتداداته وآفاقه ، فهل أنجزنا مهمتنا الأولية هذه قبل التبشير بالنعي؟" وهو بذلك يقدم دعوة أكاديمية صريحة إلى العناية بهذا الفن ودراسته ، وإيلائه الاهتمام النقدي الذي حظيت به الفنون الأخرى ، وبخاصة الرواية ، وهذا موقف ينضاف ، حقيقة ، إلى مجمل إنجازات د. نبيل حداد في دراسة وتدريس الفنون النثرية الحديثة على السواء ، متحيزاً للفن وللأجمل ، كما عرفته خلال مسيرتي الأكاديمية التي واكبها ومنحها الكثير. التاريخ : 26-03-2010 |
قراءة في المنهج والرؤية لدى د. نبيــل حـداد في إصـداراتـه الأخـيره
القائد- مدير الموقع
الجنس : عدد الرسائل : 2628
تاريخ الميلاد : 01/01/1983
العمر : 41
www.mazonh.66ghz.com
تاريخ التسجيل : 09/02/2009
3
نقاط : 35417