إشكال المرجعية في الخطاب النقدي قراءة في "النص والجسد والتأويل" لفريد الزاهي منذ بداية الثمانينيات يشهد الخطاب النقدي المغربي ( والعربي) دينامية ثقافية، تكتسب حيويتها من تواصل الجدل الفكري حول إشكالية المنهج في الخطاب النقدي، والبحث في أنساق التفكير واستراتيجيات التحليل التي بامكانها أن تشكل شروطا معرفية وثقافية ملائمة للممارسة النقدية. وتتميز هذه المرحلة في مسار النقد المغربي بما يسميه عبد الحميد عقار "لحظة التنظير وبناء النسق1"، حيث تحول الخطاب النقدي نحو ذاته للتفكير في مفاهيمه وتصوراته ومرجعياته بهدف إنتاج معرفة تستجيب لمعايير بناء النسق. وعلى الرغم من أهمية هذه المرحلة، فإنها لا تخلو من مآزق ومفارقات، تقتضي التفكير في الأساليب والوسائل التي تسعف في الحد من سلبياتها. في هذا السياق تأتي قراءتنا لكتاب" النص والجسد والتأويل2"، لأنه ينخرط في هذا الجدل الثقافي حول المنهج في الخطاب النقدي، ويقترح نموذجا تأويليا للخروج بالنقد من مأزقه الوصفي الآلي نحو منظور معرفي يتفاعل فيه الفكري بالأدبي والاستطيقي.
أفق الخطاب 22/1/2012يكشف الباحث في مستهل خطابه عن رغبته في توسيع مجال النقد الأدبي العربي لينخرط في الرهان المعرفي الدينامي الذي يشهده مجال العلوم الإنسانية. ولأجل ذلك، يقترح الانتقال بالاستراتيجية النقدية من الإجراء الوصفي التقني والإيديولوجي إلى الإجراء التأويلي. هذا الانتقال اقتضى من الباحث القيام بعملية مراجعة للمفاهيم الملتبسة التي أرست تصورا خاطئا لمفهوم التأويل، يعتبره إجراء يرتبط بالهوى الشخصي والذوق الذاتي للمؤول، وبالتالي يعارض شرط الموضوعية التي يفترضه كل تحليل علمي للنص الأدبي: "ظل النقد العربي الحديث والمعاصر مفتونا إلى حد بعيد بثوابت كثيرة ومتنوعة لعل أهمها إيمانه الأعمى بمفاهيم من قبيل الموضوعية، وانصرافه إلى التحليل الوصفي والتاريخي والاجتماعي للنص الأدبي. وبالرغم من أن التجربة النقدية والنظرية لبعض رواد النقد الأدبي... قد أدت إلى منح الذوق... والانطباع الذاتي دورا مفتاحيا في العملية النقدية، إلا أن سيادة التحليل الإيديولوجي ثم التحليل البنيوي فيما بعد ومعهما تأثير نوع من الأكاديمية ذات المنزع الموضوعي، كل هذا قد أدى إلى تصور خاطئ لمفهومي الذات والتأويل، يرمي بهما خارج مجال التحليل الأدبي" (ص7) يرجع سبب هذه التصور الخاطئ لمفهوم التأويل إلى معوقات تصورية ومنهجية: ـ إغفال ما أنتجه الفكر العربي القديم في موضوع التأويل من تصورات خصبة كان لها تداعيات منتجة في التحليل الأدبي، ذلك أن مفهوم الأدب لدى العرب لم يكن يقتصر على مجال النص الشعري والحكائي، بل يشمل مجالات فكرية ومعرفية أخرى. ـ تجاهل الأصول المعرفية والبنى الفكرية والفلسفية للعمل الأدبي والنقدي، بالمقابل لا يمثل التحليل الأدبي النصوص، مجرد وصف تقني يستبعد هذه البنى ويقصيها، وإنما هو أساسا منظور معرفي يتفاعل فيه الفكري بالتقني والكتابة بالذات واللغة. ـ الفهم الآلي للتحليل البنيوي للنصوص، الذي تحول في الكثير من الأحيان إلى إيمان عقائدي بالمحايثة الداخلية للنص وسلطة التحليل التركيبي. إن هذا السياق النقدي المحكوم بهذه الاختلالات المفهومية والمفارقات النظرية هو ما يبرر دعوة الباحث إلى التأسيس المعرفي لمفهوم التأويل داخل الحقل النقدي العربي للاستفادة من إجرائيته وفعاليته في مجال تحليل النص الأدبي، وإشراع فضاء النقد على آفاق المعرفة الرحبة. يقتضي هذا التأسيس تحويل اتجاه النقد الأدبي من مساره التقليدي المغلق إلى مسار معرفي منفتح في إطار ما يسميه الباحث بالنقد المعرفي. ويتحقق هذا التحويل بتعميق روابط النقد بالأسس المعرفية والأصول الفكرية والفلسفية التي يستمد منها مفاهيمه وتصوراته من جهة أولى، وتجذير النقد في جغرافيته الثقافية من جهة ثانية، بحيث " إن النقد المعرفي يتحول في هذه الحالة إلى عمل نقدي تكاملي متعدد الاختصاصات pluridisciplinaire، يتشكل في وجوده وتطوره من التحولات التي تعرفها مجالات الفكر والعلوم الإنسانية، ويطور أدواته وخطواته الإجرائية بالإنصات للشبكات الدلالية واللغوية والمرجعية التي يصوغ بها النص الأدبي وجوده الخصوصي" (ص ولرد الاعتبار المعرفي لمنهج التأويل في مجال النقد الأدبي العربي، يخصص الباحث موضوع الكتاب لإشكالية التأويل: "لذا ارتأينا أن نقدم في هذا الكتاب تصورا تحليليا وتركيبيا لقضايا التأويل المعاصر، انطلاقا من جذورها الفكرية والفلسفية وبعلاقة وطيدة مع معطيات التأويل الإسلامي كما تبلور في الثقافة العربية" (ص9). إن ما يبرر توظيف التأويل في مجال النقد ليس مجرد الحاجة إلى الاستفادة من هذا الإجراء، أي اعتباره مجرد أداة مساعدة على الفهم والتحليل، ولكن ما يسميه الباحث بالضرورة التأويلية التي تتحكم فيها بواعث متنوعة بحسب السياقات المعرفية: ـ الضرورة النصية: وتنتج من النص باعتباره بناء رمزيا. ـ الضرورة التداولية: وتنتج من فعالية القراءة، باعتبار القارئ شريكا أساسيا في إنتاج معنى النص. ـ الضرورة الأنطلوجية: يتعلق الأمر بتصور فلسفي أنطلوجي فينومينولجي يجعل من التأويل مسألة علاقة الكائن بكينونته لا بالنصوص فقط. مسارات التأويل بعد هذه المراجعة النقدية لمسلمات الخطاب النقدي وتوضيح مفارقاتها والتباساتها، ينتقل الباحث إلى بسط خرائطية إشكالية التأويل من خلال مستويين: مستوى ابستيمولوجي، ومستوى نصي. يركز المستوى الأول على البعد المنهجي والنظري لإشكالية التأويل. ويسعى المستوى الثاني إلى تجريب الإجراء التأويلي من خلال الاشتغال على ثيمة الجسد في نماذج من القصة المغربية. المستوى الابستيمولوجي: يعرض فيه الباحث من خلال استراتيجية مزدوجة تجمع بين الحداثة(التأويل الغربي المعاصر) وبين التراث (التأويل الإسلامي) شبكة من القضايا المعرفية والفلسفية التي تتعلق بصيرورة التأويل وحدوده ورهاناته وقوانينه. في محور التأويل المعاصر انصب جهد الباحث على بسط المنظورات الفكرية والفلسفية المعاصرة لنظرية التأويل في المجال الفلسفي (نيتشه، هيدغر، غادامير، ريكور) وفي المجال السيميائي (ايكو، بيرس) وفي مجال المتخيل، وفق خطة منهجية لا تكتفي بعرض هذه الاتجاهات، بل تعمد إلى المقابلة والمقارنة بينها لتوضيح فعالية كل نموذج معرفي وإدراك حدوده، ثم تركيب ما يفرز عنه هذا التحليل من خلاصات. إن الإشكالية الناظمة التي توجه تحليل الباحث لهذه الحقول المعرفية المتعددة وتستقطب جميع القضايا المتعلقة بالتأويل نحو مدارها، هي موضوع التأويل الذي يضعنا أمام مسارين مختلفين: مسار يكون فيه موضوع التأويل لامتناهيا، ومسار يكون فيه موضوع التأويل متناهيا. في الحقل الفلسفي مع نيتشه وهايدغر وجاك دريدا يأخذ التأويل مسارا لامتناهيا ، إنه غير محكوم بأية حدود أو قوانين توجه صيرورة التأويل نحو مسارات دلالية ممكنة. في هذا الاتجاه يعتبر نيتشه الوجود تأويلا، وما يفرض هذه الضرورة التأويلية هو التباس الوجود وغموض دلالته، أي متاهته وسديميته، يقول نيتشه" فالعالم قد غدا بالنسبة لنا لانهائيا. بمعنى أننا لا نستطيع أن نرفض له امكان انفتاحه على لانهائية التأويلات"(ص100). إن الوجود تأويل ليس بمعنى تعدد معانيه، ولكن أساسا لأنه مشرع على امكانية تأويله بشكل دائم ومتجدد، لانهائي . في هذا المسار اللانهائي ينحو التأويل لدى نيتشه منحى فيلولوجيا يتوخى تحرير النص من كل المعتقدات وأحكام القيمة التي علقت به، والعودة به إلى طبيعته الأولى. وفي هذا الفعل التأويلي يكون المؤول مصدرا لوجود النص وإنتاج معانيه. التأويل هنا يخضع لسلطة المؤول المطلقة، وهذا ما يفسر إعادة كتابة نيتشه لتاريخ الفكر الغربي بشكل جذري وساخر. لكن إذا كان القول بلانهائية التأويل يستمد مشروعيته من الضرورة الوجودية، أي طبيعة الوجود السديمية، فهل يعني هذا أن كل التأويلات صحيحة؟ هذا النموذج الكاوسي chaos سيرثه هيدغر وجاك ديريدا وينعطف به نحو متاهاته القصوى حول لانهائية التأويل. على خلاف هذا التوجه الأنطلوجي السديمي ، ومن منظور مغاير هو السيميائيات، يعارض ايكو التأويل اللامتناهي، لأنه يرى أن الإشكالية الابستيمولوجية للتأويل تتمثل في إقامة حدود وقوانين لصيرورة التأويل، تمكن من ضبط الممارسة التأويلية التي يتلقى بها القارئ النص. لذلك يقترح شبكة من القوانين التي تشتغل كمعايير منظمة لمسار كل برنامج تأويلي، وأهمها: تحديدات النص ومؤشراته التي توجه استراتيجية التأويل، التعاون النصي بين القارئ/ التأويل والمؤلف/النص، حيث يحضر المؤلف في النصوص التخييلية كدور عاملي للملفوظ في البنيات الأسلوبية و التلفظية و العاملية. إن نمط حضور المؤلف هو ما يجعل منه إلى جانب القارئ استراتيجية نصية قابلة لإقامة ترابطات وتراسلات نصية توجه صيرورة التأويل نحو مساراتها الدلالية الممكنة. هذا الارتهان الجدلي بين الطرفين (النص والقارئ، و هو ما يشكل في نظر ايكو حدودا للتأويل، ذلك أن القارئ مطالب بالانتباه إلى موسوعة النص وتحيين مكوناتها في صياغة معنى النص. وهذا ما يجعل موضوع التأويل متناهيا لأنه يظل مشروطا بهذه المكونات والمرجعيات والسياقات. في محور التراث العربي يلاحظ الباحث المكانة الاعتبارية الايجابية لمفهوم التأويل في الفكر الإسلامي. وعلى الرغم من موقف الفقهاء السلبي من التأويل في مقابل انحيازهم للتفسير، فقد نبعت ضرورة التأويل من صلب النص الإسلامي من جهة، ومن وجوب الاجتهاد وضرورة الاختلاف، بحيث سيتجاوز " التأويل لغة واصطلاحا مجاله التحديدي الجزئي ليغدو المحرك الدينامي للفكر الإسلامي برمته، وأداته المنهجية الأساس لخلق التحول في مجال ذاك الفكر، ووسيلته الإجرائية والمعرفية في صياغة تصورات جديدة تفتح الفكر الإسلامي نحو آفاق جديدة عقلا ونظرا، سواء في مجال الأخلاق أو الأنطولوجيا أو الفلسفة أو الفكر الفقهي." (ص87) يرصد الباحث إشكاليات التأويل الإسلامي من خلال قراءة جنيالوجية تطرح الأسئلة القطاعية الخاصة بمسألة التأويل في كل حقل من حقول الفكر الإسلامي( الحقل الفقهي، الحقل الكلامي، الحقل الفلسفي). وتبدو أهمية هذه القراءة من المنظور الابستيمولوجي في أنها تتجاوز سلبيات القراءة الشمولية التي تختزل تعدد حقول الفكر الإسلامي في نسق واحد مغلق، وتعمم نتائجها على هذه الحقول دون مراعاة لاختلاف السياقات والمرجعيات. على خلاف الحقل الفقهي، سيبدأ التأسيس المعرفي لمبادئ النظرية الإسلامية لمفهوم التأويل في الحقل الكلامي خاصة مع المعتزلة، حيث سيتم التعامل مع النص القرآني حسب استراتيجية تأويلية. ففي خضم البحث عن مشروعية التأويل ،اعتبر المعتزلة أن القرآن يشمل ما يقبل التأويل وهي الآيات المتشابهة الخاصة مثلا بالصفات الإلهية، ويحتوي ما لايقبل التأويل كآيات الأحكام والأفعال والأعمال. هكذا" وجد المعتزلة أنفسهم، وهم يسعون إلى إثبات عقلي لانسجام التصور الإسلامي يقيمون تصورا نسقيا متناغما لقضاياه، ويؤسسون بالمقابل مبادئ أولية لنظرية التأويل الإسلامي" (ص(88 في الحقل الفلسفي يأخذ التأويل دينامية خصبة، خاصة مع ابن رشد الذي اعتبر أن النص الإسلامي نص يدعو إلى التأويل ويحث عليه، لذلك سيسعى في تناوله للنص الشرعي إلى إثبات مشروعية الموافقة بين الحكمة والنص، وبين الشرع والعقل على فعل التأويل ذاته. ويؤسس ابن رشد نظرية كاملة في تأويل النص الشرعي تنهض في مشروعيتها على ثنائية الظاهر والباطن. إن المستوى الباطني في النص يدعو منطقيا إلى التأويل، بل إنه يقتضي أن التأويل من طبيعة النص. بعد هذه القراءة الجينيالوجية القطاعية يلخص الباحث قضايا وأسئلة النظرية الإسلامية في التأويل في المبادئ التالية: ـ إنها تصوغ نموذجا عاما لا يتعارض فيه التفسير والتأويل بقدر ما يتكاملان، انطلاقا من أولوية الفهم والإدراك، على خلاف الهيرمينوطيقا الغربية وخطواتها الثلاث(الفهم والتفسير والتأويل). ويرجع هذا الاختلاف إلى الخاصية التداولية للتأويل الإسلامي التي لا تستهدف تملك النص وإضاءة عتماته فقط، بل تشرط ذاك التملك بتلقيه وتوظيفه من قبل القارئ العام، بحيث تتحكم وضعية الجمهور المتلقي كما نجد لدى ابن رشد(طبقيا ومعرفيا) في حدود التأويل وأهدافه. ـ إنها تصوغ مفهوما للنص ينبني على مقولة الإعجاز، ومن ثمة له استراتيجيته البلاغية الخاصة. وهو نص يقتضي التفسير أي الفهم والتأويل ويقترح محددات تأويلية على المؤول. ـ التأويل فعل معرفي يستهدف خلق انسجام بين المرجعيات الفكرية والسياسية والإيديولوجية ومعطيات النص. أي أن الممارسة التأويلية لها أهداف ثقافية وسياسية. ـ التأويل ممارسة جزئية، لأن النص ينقسم إلى ما يقبل التأويل وما لا يقبله، بالرغم من أن التأويل الصوفي مارس تأويلا كليا للنص. ـ التأويل مشروط بالقدرة التأويلية، أي بالعلم، لذا فهذه المهمة منوطة بالعلماء المختصين الراسخين في العلم، أي في علوم الدين. ـ التأويل من حيث اشتغاله فعل شامل، لأنه يوظف المعطيات اللغوية والاعتقادية والخبرية والموسوعية للكشف عن معنى النص. ـ إنه تأويل سياقي تترابط فيه مكونات النص الداخلية وسياقاته الخارجية. المستوى النصي: بعد عرض الباحث للخطاطات النظرية والمعرفية لمفهوم التأويل، ينتقل إلى الإنجاز التطبيقي. منذ البداية يعلن الباحث تحيزه لنظرية التأويل المتناهي، ذلك أن القول بحدود التأويل أي ضوابطه وقوانينه تمكننا ـ بحسب رأيه ـ من محاولة تعيين الشروط الأدبية للتأويلات الصائبة. وهذا ما يظهر في تحليله لثيمة الجسد في نماذج من القصة المغربية. فهو يأخذ في الاعتبار مكونات النص السردية والبلاغية والرمزية " وإذا كان متخيل الجسد، كما نرمي إلى البحث التحليلي فيه، ينصاع بشكل كبير لمعطيات التحليل الموضوعاتي، فإن ذلك يكون ضمن أسلوب منفتح ومعرفي يأخذ بعين الاعتبار مكونات النص من جهة، والعلاقة التحليلية والمعرفية التي تتطلبها وتسهم القراءة النشطة والمنتجة في بلورتها تأويليا."(ص21) إن الجسد الذي يقاربه الباحث هو بالأساس نص تأويلي لأنه جسد تخييلي ينشئ صوره وعلاماته في استراتيجيات نصية تشيدها اللغة والذاكرة الثقافة والمتخيل الرمزي، حيث " يشتغل وفق خطاطات فينومينولوجية معينة تقترب، إلى هذا القدر أو ذاك، من الواقعي من غير أن تتطابق معه إطلاقا." (ص20) وإذا كان الباحث يتبنى نموذجا تأويليا في مستوى التحليل، فإنه يبرر مزاوجته بين التحليل الموضوعاتي والتأويل، بأن البحث الموضوعاتي ليس سوى إحدى النقط المركزية في السلسلة التأويلية التي تبدأ من النص عموما في علاقته باللغة والوجود، وحتى لو كان يمثل نقطة البداية في التحليل فإنه يندمج في الصيرورة التأويلية وقد يتوافق مع المسارات التأويلية أو يتعارض معها. لكن ألا يشتغل هذا البحث الموضوعاتي كحدود للتأويل، فالباحث باختياره لثيمة الجسد كنقطة انطلاق في التحليل يحدد مسار التأويل، ذلك أن الاختيار هو انتقاء من بين احتمالات عديدة، وبالتالي توجيه للتأويل نحو مناطق معينة. على مستوى التشكل النصي ، يكشف الباحث دور الجسد في خلق دينامية السرد وفي تأسيس الدلالات الرمزية، بحكم أن الجسد يبني هويته من داخل المتخيل والرمزي. في قصة "سلخ الجلد" لمحمد برادة يتم تسنين صورة الجسد من خلال المتخيل الرمزي والأسطوري والسحري والمقدس، بل إن التخييل يعيد صياغة التصور الجماعي للجسد من المنظور الذاتي للنص " فمحمد برادة يعمد هنا إلى التذويت المتخيل للتجربة الجماعية، أي أنه يمنح بعدا ذاتيا ونفسانيا للمشكل القيمي الإيديولوجي، وينظر له من زاوية جسدية، بحيث تخترق العلاقة مع الآخر المعطيات الثقافية لتسكن في التواصل الجسدي المستحيل" (ص144) . وفي قصة "زينة" لمبارك ربيع يتفاعل المتخيل والسحري في تشكيل هوية جسد الشخصية، "عبر الفعل السحري، في انفتاحاته التخييلية والمتخيلة تدخل الشخصية العاشقة في علاقة متخيلة بموضوعها" (ص162) وهو ما يمكن الشخصية رغم العوائق الاجتماعية وعجزها الذاتي من التملك الشخصي لموضوع رغبتها. ما تفقده الشخصية على صعيد الواقع الاجتماعي تتملكه عبر فعل المتخيل السحري. تجاذبات الخطاب كما رأينا يتحرك خطاب الباحث فريد الزاهي في أفق معرفي، مشحون بالرغبة في تجديد فاعلية النقد الأدبي، وتجريبه في تحليل ظواهر ثقافية (الجسد، السحر) تجعل الخطاب النقدي أكثر إنصاتا لمحيطه الثقافي،وتعميق هذا الأفق معرفيا وحواريا هو ما يبرر مطارحتنا لهذا الكتاب، لأننا نعتقد أن جوهر النقد أن يظل دائما موضع تساؤل وتفكيك . يرى الباحث أن النقد المعرفي الذي يقترحه هو نقد تكاملي، وهذا ما يجعل من النقد فضاء للتفاعل بين المناهج والعلوم والنظريات المتعددة.إن مشروعية هذه التكاملية تنبع ـ في نظره ـ من ضرورة استفادة النقد من التطورات والتحولات الحاصلة في مجال العلوم الإنسانية. من المنظور الابستيمولوجي تطرح التكاملية إشكال الملاءمة بين العلوم والنقد ، خاصة في ظل اختلاف العلوم في خلفياتها الابستيمولوجية ومرجعياتها الفلسفية، مما يستدعي تحديد مرجعية الخطاب بوضوح نظري حتى لا تتحول عملية الإحالة العلمية إلى مجرد إسقاط لمنظورات ونماذج نظرية جاهزة. من جهة ثانية، إن الاقتصار على تعريف النقد المعرفي في بعده الإحالي على العلوم والمعرفة، بوصفه خطابا يحقق شرعيته من استعارته لأدواته ومفاهيمه من حقول الفكر والمعرفة والعلوم الإنسانية ، يجعل شرعية خطابه مرتهنة بشرعية خطاب آخر ، وهوما يترتب عنه إرساء هندسة تراتبية يكون بموجبها الخطاب النقدي في مرتبة أدنى من الخطاب المعرفي، أو بالأحرى مجرد خطاب تابع لخطاب أعلى، بحيث نكون بصدد ثنائية الهاش والمركز. وهو ما يفضي في النهاية إلى تقزيم وظيفته المعرفية ، حين نرهن إنتاجيته بدينامية معرفية خارجية وليست داخلية. بمعنى أنه يكتسب صفة المعرفة من خارجه وليس من استراتيجيته، " إنه خطاب لا يملك قوته إلا بوجود قوة مفترضة في الخطاب الآخر الذي تكون له صورة علم من العلوم أو منهج نقدي مرتبط بهذا العلم أو ذاك، أو يكون مجموعة أفكار تحيل على فلسفة ما، أو فلسفة فرد أو مدرسة فلسفية، ومن ثم، فإن هاجس التنظير لا يتجاوز حدود التموضع داخل الخطاب الآخر3". المطلوب، إذن، هو تجاوز المنظور الاستعاري الأداتي باتجاه بلورة منظور أدائي، يبحث في دينامية الخطاب النقدي بتركيز البحث على أدائه المعرفي من داخل استراتيجيته في بناء معرفته ورؤاه في ضوء ممارسته النصية ، ذلك أن " النقد ـ على كل حال ـ لا يتلقى مبادئه وأفكاره، لا من اللاهوت ولا من الفلسفة ولا من اللسانيات، إنه يبني مفاهيمه في ضوء ما تتيحه النصوص عبر عمليات الاستلذاذ والتحليل والتأويل، ثم بعد ذلك تتدخل المعرفة لتسبغ على ما يستنتج من النصوص طابع النسق وطابع النظرية4". إن الأمر لا يتعلق بدعوة مثالية لفصل النقد عن مجال علاقاته بالعلوم الأخرى. وهذا أمر مستحيل، ولكن بتجاوز المنظور البرغماتي، الذي يختزل علاقة النقد بالمعرفة في جانب الفائدة الإجرائية، أي ما يجنيه النقد من فائدة في حالة استعاراته لأدوات علم آخر، في أفق تأسيس معرفية النقد من داخل النسق، بحيث يصبح خطابا منتجا للمعرفة على غرا ر الخطابات الفكرية الأخرى، وأول خطوة في هذا المشروع هي تحديد موضوع النقد المعرفي. هل هو نقد أدبي أم معرفي أم ثقافي؟ وهل النقد المعرفي يرادف ما يسمى في النقد الأنجلوساكسوني بالنقد الثقافي؟ ثم إن الانتقال بالنقد من طبيعته الأدبية إلى طبيعته المعرفية يقتضي من المنظور الابستيمولوجي إحداث مجموعة من التحويلات في النظرية والممارسة: (1 ـ إحداث نقلة في المصطلح، 2 ـ إحداث نقلة في المفهوم، 3 ـ إحداث نقلة في الوظيفة، 4 ـ إحداث نقلة في التطبيق5) هذا التحويلات الابستيمولوجية والمنهجية هي ما نفتقدها في الكتاب،وتمثل شروطا ومقتضيات لأي مشروع تنظيري، لضمان تماسكه النظري وانسجامه النسقي. إحالات 1 -عبد الحميد عقار: أفق الخطاب النقدي بالمغرب، ضمن كتاب جماعي، النقد الأدبي بالمغرب، منشورات رابطة أدباء المغرب، ط1/ 2002، ص.106. 2 - فريد الزاهي: النص والجسد والتـأويل، أفريقيا الشرق، 2003. 3- محمد الدغمومي: نقد النقد وتنظير النقد العربي المعاصر، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، 1999، ص.295. 4 -عبد الحميد عقار: أفق الخطاب النقدي بالمغرب، ص. 111. 5 -عبد الله الغذامي: النقد الثقافي، المركز الثقافي العربي،ط1/ 2000، ص.62 وما يليها.
| ||||
عدد القراءات : 393 | ||||
إشكال المرجعية في الخطاب النقدي
القائد- مدير الموقع
الجنس : عدد الرسائل : 2628
تاريخ الميلاد : 01/01/1983
العمر : 41
www.mazonh.66ghz.com
تاريخ التسجيل : 09/02/2009
3
نقاط : 35417
- مساهمة رقم 1